على هامش رائية العرب …

109127553 211305320132127 8917932960366497020 n

إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي

” رائية العرب ” عمل شعري جماعي اكتمل إنجازه في صائفة 2020 ، وبعد الاكتمال ارتأيتُ – وفق رغبة المشرف على إنجازه – أن أكتب حوله الكلمة التالية :
لقد قرأت مقتطفات متفرقة من ” رائية العرب ” كما وردت في نشرها التجزيئي الرقمي الأول؛ وبما أنها قصيدة لأمّة وأمّة في قصيدة – وما أكبر هذه الأمة المعنية وما أكثر آلامها وآمالها – فإنجازها بالصيغة والغاية المعلن عنهما في زمننا الجريح أمرٌ له أهميته واحترامه ودوره الحضاري في تشكيل وعيٍ تحتاجه أمتنا المقهورة في وطننا المفكك ضمن عسر هذا العصر النازف صباحَ مساء بغير انقطاع يُذكَر ولا أمل جاد يُنتظَر …
كان الشعر وسيبقى ديوان العرب الذي لا ينافسه في اللاشعور الجَمْعي عند أهل الوبر والمدر من ذوي الروح العربية والإحساس العربي فَنّ آخر من الفنون الجميلة عامة وفنون القول البشري خاصة ببيانه الجَمالي المنماز وتماهيه المجتمعي الممتاز واستقرائه المستقبلي المُجاز. لذا؛ – في عمومه وتفاصيله – ستقترح ” رائية العرب ” نفسها وجْهَ ديوان للأمة في مستقبل الزمان إذا حدث ما يلي :
1 – التأسيس الشعري الأصيل للنص
2 – الإدراك العميق لِكُنْه الواقع
3 – استشراف محركات الغد المأمول
4 – صناعة القارئ المتفاعل مع هذا النص وغيره.
فبالنسبة للتأسيس؛ فإن الإلحاح عليه بتقديمه على العناصر الأخرى جاء من فشل رسالة الشعر العربي الحداثي الوهمي الذي كان فشله متوقعا وطبيعيا بحكم أنه شعرٌ أجنبي مكتوب بألفاظ عربية لا تبتعد كثيرا عن ترجمةٍ ما فهمها ولا تذوّقها حتى مَنْ حرّروها غالبا وذلك لخلوه من الهُوية الثقافية والأدبية الشعرية والأطروحة الحضارية النابعة من اهتمامات الأمة وهمومها الخاصة بها وقضاياها المصيرية …
وبالنسبة للإدراك؛ فالوقوف عليه جاء من القطيعة الحصيلة بين الحداثيين الوهميين وبين واقع أمتهم حتى بات يقال إن الأدباء العرب ومنهم الشعراء في زمنهم الأخير لا يكتبون عن العرب ولا للعرب ولا بأدوات العرب …
وبالنسبة للاستشراف المستقبلي فالشاعر الحداثي العربي الوهمي أصبح أعمى البصر والبصيرة في نظرته إلى مستقبل أمته الذي يراه بعينين أجنبيتين استعماريتين احتقاريتين لكل ما هو مرتبط بالوجود العربي الحقيقي …
والواضح من خلال ما اطلعت عليه من ” رائية العرب ” والأحاديث الدائرة عنها وعن كثير من الكتابات التي تجلت مُقاوِمة لحداثتنا المعاصرة الوهمية في الشعر وغيره أنها – وإن اختلفنا في مستوياتها وجودتها – لا تخلو من الانخراط في أصالة التأسيس وعمق الإدراك ونباهة الاستشراف، في مشارق الأمّة ومغاربها ومَهاجرها …
وبعد هذا – بما له، وما عليه، وما يقتضيه من اهتمام مسؤول متواصل – يبقى العنصر الرابع الذي سميته ” صناعة القارئ المتفاعل ” بإيجابية واستمرارية مع هذا الفعل الحضاري الواعي الذي لا يخص الشعر وحده وإنما يمتد إلى كل مكونات الحياة العربية، انطلاقا من الفكر والتخطيط والبحث والإبداع ووصولا إلى كل جزئيات اهتماماتنا وهامشياتها بغير استثناء يستحق أن يُستثنى …
وصناعة هذا القارئ للشعر وللحياة برمتها في فضاءاتنا العربية الإسلامية لا يمكنه أن يتحقق إلا بالشروط الموالية :
أولا : مراجعة دور الأسْرة :
الأسرة عندنا حالياً – إن لم تكن مستقيلة تماما – تقوم في أحسن أحوالها بدور الرعاية المادية للأطفال، وهذا لا يكفي … والصحيح هو أن تجمع الأسرة بين الرعاية المادية الضرورية والتربية ذات الاهتمامات القصوى في حياة الإنسان، ومنها تنشئة الطفل على القراءة الملتزمة بما ينميه تنمية سليمة ضمن هُويته ووفق المقتضيات الوجودية لأمته.
ثانيا : مراجعة دور المدرسة :
مدرستنا الحالية مهتمة بتلقين مختصر معلومات شبه جاهزة للفرد كي يحمل شهادة صغيرة أو كبيرة من أجل وظيفة معاشية غالبا، وينتهى دورها، وهذا أضعف مستويات التمدرس … والتمدرس الضروري لتغيير واقعنا نحو الأسمى والأفضل والمفيد هو أن تنتج المدرسة قارئا يفهم البحث ويتذوق الإبداع ليتفاعل مع الحياة بناءً على مستوى قراءاته لا بناء على الشهادات فقط التي سُلِّمت إليه غالبا بحمولة مهتزة أو فارغة تماما.
ثالثا : مراجعة دور الإعلام :
إعلامنا الراهن بمختلف تجلياته يغلب عليه الترفيه التسطيحي مع سرد مختصرات بعض الأخبار الظرفية، وهذان الأمران لا يشاركان في صناعة قارئ بل يقتلانه إن كان موجودا، لا سيما عند الشباب …
والبديل عنه هو الإعلام الذي يجعل الترفيه طريقا إلى القراءة، والخبر طريقا إلى القراءة، وكل معروض طريقا إلى القراءة كما يحدث عند الأمم التي أدركت قيمة القراءة …
4 – مراجعة دور المسجد :
المسجد لم يكن في التاريخ العربي الإسلامي الطويل مجرد معبد فقط وإنما كان جامعا بين العبادة وبين ما يستثمر هذه العبادة في ترقية الحياة بواسطة التغلغل في رحِم كل أنواع المعرفة عن طريق القراءة. وهذا الدور الجامع للمسجد هوالذي صنع في أزهى عصورنا المسلم القارئ الذي ساهم في فعاليات الحضارة البشرية وقادها باقتدار لقرون عديدة … والقراءة المسجدية لا تقتصر على التلاوة التعبدية وإنما تتجاوزها إلى التدبُّر التفاعلى للنصوص عبر مفاتيح مختلف المعارف …
وهنا أتوقف لأقول بيقين : عندما نصنع هذا القارئ ذا اللسان العربي الذي بدأ التفكير فيه هنا وهناك سنصل إلى ما تدعو إليه وتبشر به كل الكتابات العربية الكبيرة بأصالتها وصدقها ومحتواها وإستراتيجيتها وعزم أهلها، ومنها ” رائية العرب “.
وفي الختام أقدم الشكر والتهاني لصاحب الفكرة الدكتور صالح الطائي، وللمشرف على إنجازها الشاعر المهندس ضياء صكر الذي قام بجهد عملاق، وللمساهمات والمساهمين فيها من الشواعر والشعراء الذين بلغ عددهم 139 من جنسيات عربية مختلفة … وبالمناسبة أدعوهم وأدعو معهم أهل الأصالة من حملة الحرف العربي اليوم وغدا إلى الانخراط بعزم وحزم وقوة وموضوعية وتفاؤل في تشكيل مستقبل الأمة وفق مقتضيات هويتها الحضارية ومصالحها الحقيقية التي بها نكون ومن دونها لا نكون.
والله تبارك وتعالى من وراء القصد وبه سبحانه التوفيق.