من أجل اللغة العربية ….. نقاش ضروري

154402572 3950760328320347 225783743898942422 n

بقلم : أ . د . بومدين جلالي

يوم 21 / 02 / 2021

مع وصول الرقمنة إلى كل بيت تقريبا؛ لقد انتشرت كتابات كثيرة متنوعة باللغة العربية في مختلف الفضاءات التي أتاحها الأنترنيت، وهذا أمر محمود جدا في منطلقه لكنه دون ذلك في مستواه. فالجيد من هذه الكتابات في ذخيرته اللغوية وأدائه الأسلوبي وسمو فكرته وعمق معرفته بالحياة في هذا التجلي منها أو ذاك قليل إذا ما تمت موازنته بكتابات أقلامنا التراثية المعروفة أو مقارنته ببعض الكتابات الأجنبية التي وصلت وتصل إلينا في لغاتها المتداولة بيننا أو مترجمة إلى لغتنا العربية.

أسيسا على هذه الملاحظة العامة التي تتفرع إلى تفصيلات خاصة بكل مجال من مجالات الكتابة؛ لقد ظهر في الزمن الأخير نقاش طموح يهدف إلى غايتين هامتين، أولاهما تثمين الكتابة بالحرف العربي ودعمها كي يستخدم أهلها طاقتَها الهائلة في عموم المعارف البشرية مهما كان نوعها وذلك من أجل صناعة زمن ذهبي جديد لها يفوق زمنها الذهبي القديم وينافس منافِساتها في أرضها وعلى المستوى العالمي، وثانية الغايتين الارتقاء باللغة دون المساس بمقوماتها الجوهرية وذلك عن طريق الإحياء والإضافة وتعميم استعمالها اليومي الصحيح في كبريات الأمور وصغرياتها من الحياة المعاصرة والمستقبلية … والغاياتان ممكنتان ولا استحالة تتسرب إليهما إذا ما أراد أهل العربية ذلك بأقوالهم وأفعالهم معاً وقدّموا بعزم وصدق ودراية ما يجب عليهم – فرادى وجماعات ومؤسسات ودولا – أن يقدموه بشكل مدروس منظم مستمر لا انقطاع فيه ولا تذبذب في تنفيذه.

وضمن هذا النقاش الذي أصبح من ضرورات الدفاع عن وجود العرب بوصفهم أمّة لها خصوصياتها المتميزة عن كل أمّة توجد على وجه اليابسة، وعلى رأس هذه الخصوصيات اللغة العربية التي لا يمكن للعربي أن يكون عربيا إلا بها بوصفها حاملة لروح منجزه الحضاري الإنساني عبر عشرات القرون كما لا يمكن للمسلم – عربيا كان أو غير عربي – أن يكون مسلما إلا بها بوصفها اللسان الأصلي الوحيد للإسلام الذي لا تُفهم روحه إلا بفهمها ولا تُؤدَّى أهم فرائضه بلغة أخرى سواها؛ لقد ارتأيت أن أساهم ببعض ما يقود حتما نحو درجات عالية في الكتابة باللغة العربية مهما كان الاختصاص، وهذا وفق العناصر الموالية : -أولا : تثبيت العربية في روح الإنسان العربي وعقله :

الإنسان العربي – بخاصة إذا كان ارتباطه بالإسلام والعربية فلكلوريا، وانبهاره بالغرب لامس حد المسخ – لا يعتبر لغته العربية من اللغات العالمية الرئيسة في العديد من نشاطات الإنسانية خلال الزمن المعاصر، وهذا لا لعجز فيها وإنما لخلل في علاقاته الروحية العقلية العملية بها من جراء ضغط الظروف الذاتية واللاذاتية عليه باستمرار وفي كل مكان تقريبا. من هنا؛ بات ضروريا علاج هذا الداء الناتج عن اهتزاز التكوين الأول وذلك باعتماد الطريقة التراثية التي جعلت العربية – للعرب خاصة وللمسلمين عامة – لغة علمية عالمية أولى في عصورها الذهبية، وذلك ببرمجة مختارات دقيقة من النصوص القرآنية والسنية مضافة إلى الفصيح من مدونة العرب الفاتحة على مختلف التخصصات، من الصف الدراسي الأول إلى الثاني عشر (ابتدائي / متوسط / ثانوي) وتدريس كل المواد بالعربية دون سواها، مع فتح الباب على جميع اللغات الأجنبية الحية الفاعلة لتكون وسيلة الإنسان العربي المستقبلي للتحاور مع المعرفة البشرية – أين وُجدتْ – وروحه وعقله مزودان بثقافة انتمائه التي لايكون فاعلا نافعا لأمته في دلالتيها العربية والإسلامية إلا بالمحافظة عليها بوصفها الهويه التي تميزه عن غيره وتجعله إضافة منمازة للفعل الحضاري البشري لا مجرد نسخة من النسخ المشوهة. وبعد هذا التكوين التأسيسي المرجعي يصبح التلميذ طالبا متمكنا بإمكانه أن يتخصص مستخدما لغته الأم كما بإمكانه أن يوسع ويعمق دائرة معارفه في الاختصاص باللغة أو اللغات الأجنبية التي أتقن أساسياتها، دون عقدة معينة ومن غير خوف أن تخسره الأمة بعد التخصص كما حدث مع عدد معتبر من أدمغتنا في الزمن الأخير.

ثانيا : توازي صناعة المصطلح بصناعة ما يُصطلَح عليه
حاليا، يقوم العديد من الأفراد والمؤسسات بجهود معتبرة وشاقة من أجل صناعة المصطلح العربي للمستجدات التي وصلت أو تصل إلينا اتباعا. وبرغم النقص في هذا المجال وما يرافقه من اهتزازات لعوامل متعددة إلا أنه يبقى من الجهود ذات الأهمية التي لها فائدتها واحترامها. وما يبدو ضروريا في اللحظة الراهنة هو مواصلة تلك الجهود بالكثير من التنظيم ومراعاة الدقة النابعة من جوهر اللغة العربية في روحها لا في تقعيدها فقط وتوسيعها إلى كل الفضاءات العلمية والتقنية والمعرفية من غير استثناء يذكر. وبالتوازي مع هذا فلا بديل لأهل العربية في خاصتهم وعامتهم – إذا أرادوا زمنا ذهبيا جديدا للغتهم المرادفة لوجود أمتهم السيدة الحرة المتحضرة – إلا بالدخول في عصر صناعة ما يُصطلح عليه أصلا باللغة العربية من غير استيراد ولا ترجمة ولا اقتباس ولا تبعية من التبعيات، وذلك باستثمارين رئيسين لا ثالث لهما. أولهما الاستثمار في الإنسان العربي، وثانيهما الاستثمار في محيط هذا الإنسان العربي.
فأما الاستثمار في الإنسان العربي فيكون بالتربية والتعليم والتكوين بلغته وفق مقومات انتمائه، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام بحثه العلمي في كل الاختصاصات الموجودة والتي ستوجد، والاهتمام البالغ باختراعاته وإبداعاته في كل كبيرة وصغيرة، مع توفير مسببات الاستقرار الفردي والأسري والمجتمعي، تحت مظلة الأمن الاجتماعي وحرية الاختيارات المتناسقة مع أهداف الأمة بكل شعوبها في بناء زمن ذهبي جديد نابع من خصوصية الانتماء وواقع المعاش وطموحات أهل الضاد جميعهم في العيش الكريم بكرامة تامة، من غير هيمنة عليهم أو عقدة أمام هذا أو ذاك من المتعاملين معهم.

وأما الاستثمار في محيط هذا الإنسان العربي فيكون بتوفير فرصة العصر بما تبقى من ثروات باطن الأرض قبل زوالها في الاقتصاد المنتج للثروة بتحويل البحث والاختراع والإبداع إلى واقع عربي جديد لا يستورد المصطلحات الفارغة من معناها أحيانا وإنما ينتج ما تكون اصطلاحاته عربية قلبا وقالبا ويصدرها لغيره لا من أجل الهيمنة كما فعل الآخر غالبا وإنما من أجل التبادل المتعاون لخدمة البشرية المُكَرّمة بنص ديننا ( ولقد كرّمنا بني آدم …) من غير تمييز ولا ظلم في عمارة الحياة بما لا يضر ولا يؤدي إلى احتمال الفناء في كل وقت كما حدث وما زال يحدث مع الذين لا تهمهم إلا المكاسب المادية فقط وما ينجم عنها من سيطرة خطيرة مهددة للحياة برمتها. ثالثا : الجمع بين المواكبة الناقدة والاستباق التجديدي

العربية لا تجني شيئا من الاحتكاك بالآخر المختلف إذا كانت مجرد قنطرة عبور يمكن استبدالها بقنطرة أخرى متى شاءت الأهواء أو المصالح ذلك، وإنما على أهلها أن يوظفوها توظيفا جديدا ناقدا لمنجز الآخر المختلف انطلاقا من منجزها عبر العصور ومنظومتها القيمية المجتمعية الخاصة بجغرافيتها البشرية وتاريخها الإنساني وخصوصياتها في مختلف تفاصيل حياتها الواقعية المجسدة للأنا الحضاري العربي بشعوره ولاشعوره معاً، وذلك من أجل أقلمة ما يصل إلينا بإخضاعه لمعاييرنا الجوهرية التي يعد المساس بنسيجها مساسا بوجودنا في جملته وتفصيله. وفي الوقت ذاته على أهل العربية أن يبادروا بالتجديد المعاصر والمستقبلي وفق خصوصيتهم فيما هو بين أيديهم، مع العمل من اجل استباق الآخر أو على الأقل منافسته أو مشاركته في أضعف الأحوال فيما تهدف إليه إستراتيجياته الكبرى – بخاصة في مجالات العلوم وتطبيقاتها التقنية – وتحبير ذلك كله باللسان العربي المبين الذي يثبت الحضور العربي نقدا واستباقا ومنافسة ومشاركة في قلب محركات الحياة، وليس في هامش من هوامشها المستضعفة الآئلة إلى الزوال كما يحدث حين استخدام لغة أجنبية لا علاقة لها بشعور ولا شعور الموجهة إليهم في عمومهم. رابعا : الاستعمال اليومي رسميا وشعبيا

اللغة العربية من اللغات القوية جدا – بل هي الأقوى والأدق والأغنى – على مستوى مدونتها المعجمية القاموسية وما ترتب عنها من تأليف في قضايا الدين والدنيا التي كانت رئيسة في زمنها الذهبي بين العباسيين شرقا والأندلسيين غربا، هذا إضافة إلى حفظها المقدس بالقرآن العظيم والسنة الشريفة، ولكنها في راهن واقعنا المؤسساتي والشعبي ليست بهذه القوة المشار إليها بفعل فاعل وعن قصد غالبا، ويعود هذا إلى عاملين خطيرين أحدهما خارجي والآخر داخلي.فالعامل الخارجي يتجلى في اعتماد المؤسسات والشركات على اللغات الأجنبية بسيطرة الإنجليزية في المشرق العربي وسيطرة الفرنسية في المغرب العربي نتيجة مخلفات الهيمنة الاستعمارية القديمة ومخططاتها الجديدة ضمن رؤى العولمة الهادفة إلى قولبة العالم في نسخ غربية هامشية تابعة للمركز. والعامل الداخلي يتجلى في طغيان اللهجات في كل مكان من جراء ضعف التدريس مشرقا ومغربا ويضاف إليه تواطؤ الثقافة والإعلام في غالب الأحوال وذلك باعتماد الدارجة لا الفصحى في أكثرية القنوات التلفيزيونية والإذاعية تماما كما يحدث في السينما والمسرح وبعض السرد وغير ذلك. ولا حل لهذا الإشكال المعطل لكل تنمية مؤدية إلى التطور الصحيح إلا برفع مستوى تعليم العربية كما وضحت أعلاه وموازاة هذا الرفع التدريجي بتعميم الاستعمال الرسمي للعربية الفصحى… وحينها تبقى اللغات الأجنبية أجنبية تستخدم في الاستثناءات الخاصة بها دون سيادة لها على العباد والبلاد ولا نيابة لها عن لغتنا في الكتابات الرسمية، وتتراجع اللهجات إلى دورها الطبيعي الذي لايضرها ولا يضر – بخاصة في حقول الكتابة – لغتنا الفصحى الجامعة لسانيا وحضاريا للأمة بكاملها.ويبقى النقاش مفتوحا من أجل نهضة عربية جديدة أصيلة معتمدة على ذاتها ومستثمرة لطاقات خصوصيتها من غير صدام مع الآخر ولا خنوع له.