المشكلة العظمى في الجزائر …

145297905 3890831524313228 2079082397616875435 n

ـبقلم : أ . د . بومدين جلالي..

الجزائر ليست بخير في الزمن الأخير، ولم تكن بخير في كل تاريخها الحديث والمعاصر ما عدا في فتراتها الجهادية الثورية التي أعطت للحياة معنى آخر بعيدا عن المعنى الذي نعيش في ظله اليوم … والسبب الجوهري لهذا الحرج القلق الذي جعل أهلها في حيرة من أمرهم وخوف على مستقبل أبنائهم وبناتهم ليس هو الوضع الاقتصادي المتردي ولا الوضع الاجتماعي المتفكك ولا الوضع الثقافي المتسطح ولا أي وضع آخر يجري هذا المجرى بحكم أن هذه الأوضاع المتقهقرة المنحرفة المتخلفة هي نتائج مسار غير سليم وليست سببا له…والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا المدخل الوجيز هو : ما السبب المؤسِّس لكل مصاعبنا ومصائبنا في تاريخنا الجزائري بعد الاستقلال الوطني، أو بعبارة أخرى، ما مشكلتنا العظمى التي وقفت بيننا وبين التطور الحضاري بمختلف تجلياته والذي نمتلك جميع مقوماته المادية والمعنوية بغير استثناء يذكر ؟وَرَدَ في حِكَم الأمم البحرية والنهرية أن السمكة لا يأتيها العفن من ذيلها أو بطنها أو صدرها أو زعانفها وإنما يأتيها من رأسها بالأساس، والرأس هو مربط الفرس بأسلوب العرب القدامى … فالمشكلة العظمى جاءتنا من الرأس بل من الرؤوس الكبيرة والصغيرة التي تسيطر على القرار النافذ، في كل المستويات خلال الحقب المتتابعة، ففكرت لنا بأدمغتها المتعفنة وفرضت علينا أن نفكر مثلها بأدمغتها المتعفنة، ونظرت إلى الحياة بعيونها العمياء وفرضت علينا أن ننظر إلى الحياة بالعيون ذاتها، واستمعت إلى الدنيا بآذانها الصماء وفرضت علينا أن نستمع إلى الدنيا بالآذان نفسها، واشتغلت بأعصابها المشلولة وفرضت علينا أن نشتغل بنسخة طبق الأصل مما تشتغل به، وهكذا في كل شيء، ومن قال ** لا ** سيدخل مباشرة إلى قائمة المغضوب عليهم بتهمة رجعيّ أو خائن أو إرهابيّ أو متخلف لا يعرف من التحضّر مقدار ذرّة … وذلك وفق غايات مصلحية ذاتية عاجلة وأهداف إستراتيجية غيرية آجلة، قد بدأنا نعرف حاليا كبريات تفاصيلها وصغرياتها وندرك خطورتها المهددة لوحدة بلادنا ومكونات هُويتنا ومستقبل وُجودنا …

وبما أن مشكلتنا العظمى هي السلطة المتعفنة المجسِّدة لدور الرأس المريض في الذات المؤتمرة بأوامره؛ فلنا أن نتساءل : مِن أين جاءنا هذا الداء العضال وكيف تطوَّر إلى حالة سرطانية مخيفة بحق وحقيقة ؟لقد قلّبت صفحات التاريخ قراءةً ومشاهدةً وسماعاً وتأمّلت واقعنا من زوايا متعددة خلال مراحل متوالية تؤدي سابقتها إلى لاحقتها، وما وجدت من تفسير معقول مبرر بواقع الأحداث – كما حدثت – إلا الاستعمار/الاستدمار الهمجي البغيض بشقيه القديم والجديد … القديم متمثلا في فرنسا الكولونيالية عدوة الإنسانية عامة وعدوة الجزائر خاصة، والجديد متمثلا في من حذَوْا حذوها وساروا سيرها من بني جلدتنا بعدما هيّأتهم لذلك بحنكة ودراية وتموقع وتخطيط قبل أن تغادر أرضنا وحين مغادرتها وبعد المغادرة باستمرار لا انقطاع فيه … فما إن وضعت فرنسا أقدامها الاستيطانية بشيء من الثبات في أرضنا حتى بدا لها أن تترك جيشها في ثكناته وإدارييها في إداراتهم وأقدامها السوداء في الحقول والمصانع والمتاجر التي وفرتها لهم، وبالمقابل تحكم الأهالي/الأنديجان بالأهالي/الأنديجان فكان أن اختارت *القياد* و*الباشاغوات* من هؤلاء الأهالي على أساس الولاء لها وقوة العصبة الخاصة بهم والاحتقار لبني جلدتهم والغطرسة الغليظة في التعامل – وما نماذج بن قانة وبوعلام وعلي شكّال ببعيدة عنا – ثمّ دعمتهم وعمقت سيطرتهم طوال قرن وثلث بجمهرة واسعة من الأهالي/الأنديجان مثل *الزواف* و*القومية* (بالقاف المثلثة ) و*الحركى* و*البيّاعين* بمختلف تسمياتهم فانغرس – في ظل هذا التخطيط الماكر – مفهوم مغاير لمفهوم الحكم كما دلت عليه الشرائع والأعراف والقوانين عند الأمم كلها، وتوارثت الجماعات المواليه للاستعمار الاستدماري والراضية باستيطانه الأبدي في بلادنا هذا المفهوم المغاير للسلطة التي أصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالشر المطلق… وعندما بدأ سياسيو فرنسا وكبار قادتها يتوقعون أفول الظاهرة الاستعمارية في وجهها القديم أثناء تجليات الثورة التحريرية الجزائرية العظيمة عملوا على تلغيم الصف الوطني المخلص بالموالين لفرنساهم بأحد الولاءات المتأرجحة بين روح الثقافة الفرنكوفيلية ونمط التسيير الاستيطاني واحتقار الأهالى بزرع الشعور بالدونية في وجدانهم وما ينحو هذا المنحى … وهكذا ظهرت بعد الاستقلال فكرة قائلة بعدم نضج الشعب الجزائري، وهو ما يؤهل النظام المتسلط عليه كتسلط الاستعمار سابقا أن يختار له من يحكمه من البلدية إلى الدائرة إلى الولاية إلى الوزارة إلى الرئاسة وفق مسرحية محبوكة بحنكة فيها تصحيحات ثورية حينا وانتخابات أحادية حينا وحمايات جمهورية حينا وديمقراطية فلكلورية حينا … وفي كل الحالات، كما يقول الجزائريون والجزائريات : اللعاب احميده والرشام احميدة … ولم تكن فرنسا في كل هذا غائبة بأي نوع من أنواع الغياب إذ نفذ مَنْ مَوْقعَتْهم في مصدر القرارات الجوهرية ما عجزت عنه طوال الحقبة الاستعمارية في جميع المجالات بدءً بالقطاعات السيادية وانتهاءً بالقطاعات الكمالية … ولعل معترضا يقول : ليست كل السلطة الجزائرية موالية لفرنسا الاستعمارية بل فيها عدد معتبر من المعادين لها عداوة لا نقاش فيها. وهذا الاعتراض صحيح ومبرر فكريا وميدانيا لكن من النادر ما كان من يندرجون ضمنه في مراكز القرار النافذ قولا وعملا، والدليل على ذلك نجده في الدساتير والقوانين والخطابات والمواثيق والبرامج والمشاريع التي تقول شيئا بينما الممارسات الميدانية تفعل عكسه ونقيضه دونما أدنى حرج، وهذا يعني أن الوطنيين المخلصين كانوا غالبا وما يزالون محاطين من جل الجهات بمن لا ولاء لهم إلا الولاء لفرنسا الاستعمارية بالإضافة إلى ولائهم لمصالحهم الشخصية في ضفتي البحر الأبيض المتوسط.وما زاد في عفونة الوضع العام هو زرع هؤلاء المندسين في ثنايا الشعب للتعامل بالرشى والتزوير والتوريط وإثارة النعرات القبلية والجهوية والطائفية والفئوية والعرقية لتحل محل الوطنية والإخلاص للوطن تماما كما كان يفعل القياد والباشاغوات ليحتقر أهل الجزائر جزائريتهم وينفروا من ثوابتها العتيقة العريقة ويكون ولاؤهم في النهاية لفرنسا وحدها دون منافس وتتحقق مقولة القابلية للاستعمار.

وهكذا أصبحنا أمام حالة استعمارية قديمة في تواجدها جديدة في ممارساتها خلال الزمن الأخير. وعليه؛ فسيادتنا الوطنية التي استرجعناها بدماء الشهداء الأبرار ومعاناة المجاهدين الأحرار ومساندة معظم أطياف الشعب الجزائري بما استطاع إليه سبيلا لم تكن إلا سيادة وهمية لم تتجاوز مغادرة بعض العسكريين واليهود والأقدام السوداء والحركى لأرض الجزائر بصورة مؤقتة وهم يطالبون الآن بالعودة إليها في أمن وأمان بكامل الحقوق السياسية والمدنية، ويجدون من يرضى بهذه المطالبة بل من يرحب بها جهارا نهارا. وإن سكت الشعب الجزائري وظل تائها في هوامش الحياة التي جُرَّ إليها جرّا سيحدث هذا ويحدث أكثر منه لأن الساحة السياسية الثقافية الإعلامية الاقتصادية الحالية أصبحت تغصّ بالمتصهينين الجدد ومعتنقي اللائكية الفرنسية المريضة وخدم الرأسمالية المتغطرسة العابرة للقارات التي ترى أنها هي نهاية التاريخ ولا شيء آخر ينافسها أو يخرج عن منظورها أو يأتي بعدها.وفي الختام؛ لا بدّ من التأكيد على أن المشكلة العظمى في الجزائر هي سلطة القياد والباشاغوات الجدد، في كل مستوياتها ومجالاتها المختلفة، ولا شيء غير هذه السلطة. وما نراه من تدمير متنوع متعدد متكرر هو ليس سببا من أسباب وجودها وإنما نتيجة حتمية لممارساتها القصدية الخطيرة على العباد والبلاد.

145297905 3890831524313228 2079082397616875435 n